كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَفِي الْحَدِيثِ إِشْكَالَاتٌ تَتَعَلَّقُ بِسَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ، وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرِ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَقِبَ فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا فُرِضَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَفِيهِ خِلَافٌ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ- وَبِعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ ثَعْلَبَةَ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَلَاسِيَّمَا بُكَائِهِ أَنَّهَا تَوْبَةٌ صَادِقَةٌ، وَكَانَ الْعَمَلُ جَارِيًا عَلَى مُعَامَلَةِ الْمُنَافِقِينَ بِظَوَاهِرِهِمْ، وَظَاهِرُ الْآيَاتِ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى نِفَاقِهِ، وَلَا يَتُوبُ عَنْ بُخْلِهِ وَإِعْرَاضِهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَخَلِيفَتَيْهِ عَامَلَاهُ بِذَلِكَ لَا بِظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ، وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ.
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} أَيْ: أَلَمْ يَعْلَمْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُعْلِنُونَ غَيْرَ مَا يُسِرُّونَ، وَيَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَلَمْزِ الرَّسُولِ، أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمُ الْكَامِنَ فِي أَعْمَاقِ قُلُوبِهِمْ، وَنَجْوَاهُمُ الَّتِي يَخُصُّونَ بِهَا مَنْ يَثِقُونَ بِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي نِفَاقِهِمْ: {وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} كُلِّهَا {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} (3: 5) و{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (40: 19) فَهُمْ يَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ فِيمَا يُعَاهِدُونَهُ بِهِ وَعَلَى النَّاسِ فِيمَا يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ.
الِاسْتِفْهَامُ فِي قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا} لِلتَّوْبِيخِ وَالْإِنْذَارِ، أَوْ لِلتَّنْبِيهِ الْقَاطِعِ لِطَرِيقِ الِاعْتِذَارِ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ اللهِ وَعِلْمِهِ إِيمَانًا إِجْمَالِيًّا تَقْلِيدِيًّا.
وَإِنَّمَا كَانُوا يَرْتَابُونَ فِي الرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ وَالْبَعْثِ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَ مِنْ عَمَلِهِمْ وَأَيْمَانِهِمِ الْكَاذِبَةِ بِاسْمِهِ هُوَ عَمَلُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْلَمُ سِرَّهُ وَنَجْوَاهُ، وَأَنَّهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ؛ فَإِنَّ مَنْ يَعْلَمُ هَذَا عِلْمًا صَحِيحًا فَلابد أَنْ يَسْتَحِيَ مِنَ اللهِ، وَيَخَافَ عِقَابَهُ إِنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَاكَ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهَذَا.
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} هَذَا بَيَانٌ لِحَالِ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ فِي جُمْلَتِهِمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي جُمْلَتِهِمْ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي الصَّدَقَاتِ لِلْجِهَادِ؛ إِذْ لَمْ يَقِفِ الْمُنَافِقُونَ عِنْدَ حَدِّ بُخْلِهِمْ وَتَخَلُّفِهِمْ، بَلْ تَعَدَّوْهُ إِلَى لَمْزِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَمِّهِمْ، بِمَا بَذَلَهُ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ، وَلِحُكْمِ مَنْ تَرَدَّوْا فِي هَذِهِ الْهَاوِيَةِ مِنَ النِّفَاقِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ لَهُمْ أَدْنَى حَظٍّ مِنَ التَّلَبُّسِ بِالْإِسْلَامِ، وَلَا أَدْنَى نَفْعٍ مِنِ اسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ وَدُعَائِهِ لَهُمْ؛ لِرُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَعَدَمِ الرَّجَاءِ فِي إِيمَانِهِمْ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} أَيْ: أُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُتَطَوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُعِيبُونَهُمْ فِي أَمْرِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي هِيَ أَظْهَرُ آيَاتِ الْإِيمَانِ- أَوْ أَعْنِي بِمَا ذُكِرَ مِنَ الذَّمِّ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُتَطَوِّعِينَ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ فَهِيَ كَالْمُطَّهِّرِينَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْمُتَطَهِّرِينَ، وَالتَّطَوُّعُ فِي الْعِبَادَةِ: مَا زَادَ عَلَى الْفَرِيضَةِ، وَالصَّدَقَاتُ جَمْعُ صَدَقَةٍ تُطْلَقُ عَلَى الْأَنْوَاعِ وَالْأَفْرَادِ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ: {فِي الصَّدَقَاتِ} كَقَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} (58) وَلَكِنَّ اللَّمْزَ هُنَالِكَ فِي قِسْمَتِهَا، وَهَاهُنَا فِي صِفَةِ أَدَائِهَا وَمِقْدَارِهَا، وَالنِّيَّةِ فِيهَا، كَمَا يُذْكَرُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ قَرِيبًا. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بـ {يَلْمِزُونَ} وَلَا يَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بـ {الْمُطَّوِّعِينَ} لِلْفَصْلِ بِكَوْنِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا الْفَصْلُ لَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِلْمُطَّوِّعِينَ، وَلَكِنَّ التَّطَوُّعَ وَاللَّمْزَ كِلَاهُمَا يَتَعَدَّيَانِ بالْبَاءِ لَا بفِي فَلابد مِنَ التَّقْدِيرِ كَمَا فَعَلْنَا. وَالْمُتَطَوِّعُونَ وَالْمُطَّوِّعَةُ يُطْلَقُ عَلَى الَّذِينَ يَتَبَرَّعُونَ بِالْجِهَادِ وَالْغَزْوِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ بِدُونِ أَنْ يَدْعُوَهُمُ الْإِمَامُ أَوِ السُّلْطَانُ لِذَلِكَ بِالتَّعْيِينِ، وَتَكُونُ نَفَقَتُهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ، وَالْمُتَطَوِّعُونَ بِالْحَرْبِ فِي هَذَا الْعَصْرِ تَتَوَلَّى نَفَقَتُهُمْ إِدَارَةُ الْعَسْكَرِ مِنْ مَالِ الْحُكُومَةِ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُهُمْ فِي النِّظَامِ الْعَسْكَرِيِّ الْحَدِيثِ أَنْ يَتَوَلَّوْا أَمْرَ النَّفَقَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَالتَّطَوُّعُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: تَكَلُّفُ الطَّاعَةِ أَوِ الْإِتْيَانُ بِمَا فِي الطَّوْعِ مِنَ الْعَمَلِ، وَقَدْ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَا يَعُمُّ الْوَاجِبَ، كَمَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ: {وَمِنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (2: 158) وَاسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِمَعْنَى النَّفْلِ، أَيِ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبِ.
قال تَعَالَى فِي آيَاتِ الصِّيَامِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} (2: 184) أَيْ: فَمَنْ زَادَ فِي الْفِدْيَةِ عَلَى طَعَامِ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ، وَفِي الصِّيَامِ عَلَى شَهْرِ رَمَضَانَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَفِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الْمُسْتَفِيضِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَمَا ذَكَرَ لَهُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَصِيَامَ رَمَضَانَ، وَشَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، وَسَأَلَهُ هَلْ عَلَيْهِ غَيْرُهَا؟ قَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعْ» أَيْ: تَتَطَوَّعُ وَتَتَبَرَّعُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ.
وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُ التَّطَوُّعِ هُنَا بِمَعْنَى التَّبَرُّعِ بِالْغَزْوِ؛ إِذِ الْكَلَامُ خَاصٌّ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّفْرَ إِلَيْهَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللهَ قَدِ اسْتَنْفَرَ الْمُؤْمِنِينَ لَهَا، وَوَبَّخَ الْمُتَثَاقِلِينَ عَنْهَا، وَقَالَ: {انْفَرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} (41) وَلَكِنْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُطَّوِّعِينَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ الْعَامُّ، وَهُمُ الَّذِينَ نَفَرُوا لِلْجِهَادِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ طَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُكْرَهَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُطْلَبَ بِشَخْصِهِ لَهُ. وَأَظْهَرُ مِنْهُ أَنْ يُرَادَ هُنَا التَّطَوُّعُ بِالصَّدَقَاتِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، عَلَى أَنَّ اللَّمْزَ وَاقِعٌ فِي شَأْنِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَتِهَا وَمِقْدَارِهَا، لَا مُتَعَلِّقٌ بِهَا نَفْسِهَا، وَهُوَ الْوَاقِعُ الْمَعْقُولُ وَالْمَنْقُولُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ الْآتِي.
{وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} أَيْ: وَيَلْمِزُونَ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ، وَالْجُهْدُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ: الطَّاقَةُ، وَهِيَ أَقْصَى مَا يَسْتَطِيعُهُ الْإِنْسَانُ، مَأْخُوذٌ مِنْ طَاقَةِ الْحَبْلِ وَهِيَ الْفَتْلَةُ الْوَاحِدَةُ وَالْفَتِيلُ مِنَ الْفَتْلِ الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا، وَتُسَمَّى قُوَّةً، وَجَمْعُهَا قُوًى- كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} (2: 184) مِنْ آيَاتِ الصِّيَامِ. وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ تَصَدَّقُوا بِقَلِيلٍ هُوَ مَبْلَغُ جُهْدِهِمْ وَآخِرُ طَاقَتِهِمْ، وَعَطْفُهُمْ عَلَى الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ تَنْوِيهًا بِهِمْ؛ لِأَنَّ مَجَالَ لَمْزِهِمْ وَعَيْبِهِمْ عِنْدَ الْمُنَافِقِينَ أَوْسَعُ، وَالسُّخْرِيَةَ مِنْهُمْ فِي عُرْفِهِمْ أَشَدُّ، وَإِنْ كَانُوا أَجْدَرَ بِالثَّنَاءِ وَالْإِكْبَارِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّهُمْ هُمُ الْمُرَادُ بِقوله تعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} أَيْ: يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمُ احْتِقَارًا لِمَا جَاءُوا بِهِ وَعَدًا لَهُ مِنَ الْحَمَاقَةِ وَالْجُنُونِ فِي الدِّينِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَامٌّ يَشْمَلُ الْمُكْثِرِينَ وَالْمُقِلِّينَ.
قَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ جَزَاءِ هَؤُلَاءِ اللَّامِزِينَ السَّاخِرِينَ: {سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} هَذَا التَّعْبِيرُ يُسَمَّى مُشَاكَلَةً، وَمَا هُوَ إِلَّا الْعَدْلُ فِي جَزَاءِ الْمُمَاثِلَةِ، أَيْ: جَزَاهُمْ بِمِثْلِ ذَنْبِهِمْ فَجَعَلَهُمْ سُخْرِيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ، بِفَضِيحَتِهِ لَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِبَيَانِ هَذَا الْخِزْيِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَخَازِيهِمْ وَعُيُوبِهِمْ، وَلَهُمْ فَوْقَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ. تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِيَ هَذَا السِّيَاقِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَغَيْرِهِ.
لَا يَتَجَلَّى الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا بِبَيَانِ مَا نَزَلَتْ فِيهِ، وَمَنْ نَزَلَتْ فِيهِمْ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالتَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ كُنَّا نَتَحَامَلُ فَجَاءَ أَبُو عُقَيلٍ بِنِصْفِ صَاعٍ، وَجَاءَ إِنْسَانٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا، وَمَا فَعَلَ الْآخَرُ هَذَا إِلَّا رِيَاءً، فَنَزَلَتِ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} الْآيَةَ.
هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ، وَقَالَ فِي الزَّكَاةِ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ إِلَخْ. وَفِي رِوَايَةٍ: كُنَّا نَتَحَامَلُ عَلَى ظُهُورِنَا، قَالَ الْحَافِظُ فِي تَفْسِيرِ «نَتَحَامَلُ» مِنْ فَتْحِ الْبَارِي: أَيْ: يَحْمِلُ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ بِالْأُجْرَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: تَحَامَلَ فِي الْأَمْرِ تَكَلَّفَهُ عَلَى مَشَقَّةٍ، وَمِنْهُ تَحَامَلَ عَلَى فُلَانٍ أَيْ: كَلَّفَهُ مَا لَا يُطِيقُ، وَذَكَرَ الرِّوَايَاتِ فِي اسْمِ أَبِي عُقَيلٍ وَلَقَبِهِ- وَهُوَ الْحَبْحَابُ- وَمَا وَرَدَ فِيهِ، ثُمَّ لَخَّصَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ بِمَا نَخْتَارُهُ عَلَى مَا جَمَعَهُ السَّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ لِبَيَانِ طُرُقِهِ وَصِفَتِهِ فَقَالَ: وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقُوا فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بَعْثًا قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عِنْدِي أَرْبَعَةُ آلَافٍ، أَلْفَيْنِ أُقْرِضُهُمَا رَبِّي، وَأَلْفَيْنِ أُمْسِكُهُمَا لِعِيَالِي، فَقَالَ: «بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ» قَالَ: وَبَاتَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَصَابَ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ- الْحَدِيثَ- قَالَ الْبَزَّارُ: لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَّا طَالُوتُ ابْنُ عَبَّادٍ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ عُمَرَ، قَالَ: وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كَامِلٍ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ فَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا هُرَيْرَةَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي عَوَانَةَ مُرْسَلًا، وَذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمُغَازِي بِغَيْرِ إِسْنَادٍ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، قَالَ: وَحَثَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّدَقَةِ، يَعْنِي فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَالِي ثَمَانِيَةُ آلَافٍ جِئْتُكَ بِنِصْفِهَا، وَأَمْسَكْتُ نِصْفَهَا، فَقَالَ: «بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ وَفِيمَا أَعْطَيْتَ» وَتَصَدَّقَ يَوْمَئِذٍ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ بِمِائَةِ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، وَجَاءَ أَبُو عُقَيلٍ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ- الْحَدِيثَ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ بِمَعْنَاهُ، وَعِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعمِائَةِ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: إِنَّ لِي ثَمَانُمِائَةُ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ- الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فَقَالَ: ثَمَانِيَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَمِثْلُهُ لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَحَكَى عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ أَنَّهُ جَاءَ يَوْمئِذٍ بِتِسْعِمِائَةِ بَعِيرٍ. وَهَذَا اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ فِي الْقَدْرِ الَّذِي أَحْضَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَصَحُّ الطُّرُقِ فِيهِ ثَمَانِيَةُ آلَافِ دِرْهَمِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَوْ غَيْرِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ، وَوَقَعَ فِي مَعَانِي الْفَرَّاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَجَاءَ عُمَرُ بِصَدَقَةٍ وَعُثْمَانُ بِصَدَقَةٍ عَظِيمَةٍ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، ثُمَّ جَاءَ أَبُو عُقَيلٍ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا أَخْرَجَ هَؤُلَاءِ صَدَقَاتِهِمْ إِلَّا رِيَاءً. وَأَمَّا أَبُو عُقَيلٍ فَإِنَّمَا جَاءَ بِصَاعِهِ لِيُذَكِّرَ بِنَفْسِهِ، فَنَزَلَتْ. وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِصَدَقَتِهِ وَجَاءَ الْمُطَّوِّعُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْحَدِيثَ. اهـ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى عِقَابَهُمِ الْخَاصَّ بِأَمْرِ الدِّينِ بِمَا جَعَلَ حُكْمَهُمْ فِي ذُنُوبِهِمْ حُكْمَ الْكَافِرِينَ، فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} هَذِهِ الْآيَةُ بِمَعْنَى آيَةِ سُورَةِ الْمُنَافِقُونَ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمُ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (63: 6) وَفِيهَا زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ بِذِكْرِ السَّبْعِينَ مَرَّةً وَالتَّصْرِيحُ بِأَنَّ سَبَبَ عَدَمِ الْمَغْفِرَةِ هُوَ الْكُفْرُ إِلَخْ. وَعَدَدُ السَّبْعِينَ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْكَثْرَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي عُرْفِ الْعَرَبِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هَذَا الْعَدَدَ بِعَيْنِهِ، بَلِ الْمَعْنَى مَهْمَا تُكْثِرْ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ فَلَنْ يُسْتَجَابَ لَكَ فِيهِمْ.
وَحَسُنَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِيهَا لِتَأَخُّرِ نُزُولِهَا، فَهِيَ أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ، كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ- تَقْدِيرُهُ- الِاسْتِغْفَارُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْمُعَيَّنِينَ وَعَدَمُهُ سِيَّانِ، فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ وَإِنْ كَثُرَ الِاسْتِغْفَارُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، رَجَاءَ أَنْ يَهْدِيَهُمُ اللهُ تَعَالَى فَيَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَيَغْفِرَ لَهُمْ، كَمَا كَانَ يَدْعُو لِلْمُشْرِكِينَ كُلَّمَا اشْتَدَّ إِيذَاؤُهُمْ لَهُ وَيَقُولُ: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَرَوَى مِثْلَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ- وَذَكَرَهُ. وَفِي مُسْلِمٍ «رَبِّ اغْفِرْ» إِلَخْ.
قال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي نَفْسَهُ حِينَ شَجُّوا رَأْسَهُ فِي أُحُدٍ، فَهُوَ الْحَاكِي وَالْمَحْكِيُّ عَنْهُ. وَالِاسْتِغْفَارُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي جُمْلَتِهِمْ لَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (113)؛ لِأَنَّ النَّهْيَ هُنَا عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ تَبَيَّنَ لِلنَّبِيِّ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ، وَلَاسِيَّمَا بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى الشِّرْكِ لَا لِلْأَحْيَاءِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِينَ، وَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الْمَعْنِيُّونَ هُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُعَيَّنُونَ الَّذِينَ أَخْبَرَهُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ وَفِيمَا سَيَأْتِي، وَلِذَلِكَ بَيَّنَ سَبَبَ عَدَمِ مَغْفِرَتِهِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ} أَيْ: ذَلِكَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، فَهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِسِرِّهِمْ وَنَجْوَاهُمْ وَبِسَائِرِ الْغُيُوبِ، وَلَا بِوَحْيِهِ لِرَسُولِهِ، وَمَا أَوْجَبَهُ مِنِ اتِّبَاعِهِ، وَلَا بِبَعْثِهِ لِلْمَوْتَى وَحِسَابِهِمْ وَجَزَائِهِمْ، وَلَيْسَ سَبَبُهُ عَدَمَ الِاعْتِدَادِ بِاسْتِغْفَارِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ لَهُمْ؛ فَإِنَّ شَرْطَ قَبُولِهِ مَعَ قَابِلِيَّةِ الْمَغْفِرَةِ وَضْعُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ مَا سَبَقَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (4: 64) يَعْنِي أَنَّ الْمَغْفِرَةَ إِنَّمَا وُعِدَ بِهَا التَّائِبُونَ الْمُسْتَغْفِرُونَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ إِذَا اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ. وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ فِي بَاطِنِهِمْ، مُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَاسِقُونَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ {وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أَيْ: جَرَتْ سَنَّتُهُ فِي الرَّاسِخِينَ فِي فُسُوقِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمُ الْمُصِرِّينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ، الَّذِينَ أَحَاطَتْ بِهِمْ خَطَايَاهُمْ، أَنْ يَفْقِدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلتَّوْبَةِ وَالْإِيمَانَ فَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِمَا سَبِيلًا، وَتَقَدَّمَ وَصْفُهُمْ بِهَذَا الْفُسُوقِ فِي الْآيَةِ (67) وَمِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِنَصِّهَا فِي الْآيَةِ (24) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ وَتَبِعَهُ الْآلُوسِيُّ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قوله تعالى: {سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ} سَأَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اللَّامِزُونَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ فَهَمَّ أَنْ يَفْعَلَ، فَنَزَلَتْ فَلَمْ يَفْعَلْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ فَعَلَ، وَاخْتَارَ الرَّازِيُّ عَدَمَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِغْفَارُ لِلْكَافِرِ. وَفِي التَّعْلِيلِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامُ كَالْمُنَافِقِينَ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، أَوْ صُدُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْكُفْرِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً، وَلَمْزُ الْمُطَّوِّعِينَ لَيْسَ مِنْهُ عَلَى أَنَّ طَلَبَهُمُ الِاسْتِغْفَارَ إِظْهَارٌ لِلتَّوْبَةِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَمْ نَرَهَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فَلَاَ نَدْرِي مِنْ أَيْنَ جَاءَ بِهَا الرَّازِيُّ وَهُوَ لَمْ يَعْزُهَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَا مِنْ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ كَعَادَتِهِ، وَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ رَئِيسِ الْمُنَافِقِينَ وَزَعِيمِهِمْ. رَوَى هَذَا بَعْضُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُرْوَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ فَيُرَاجَعُ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَبَاحِثِ وَالْإِشْكَالِ بَعْدَ تَفْسِيرِ قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا (84)} وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ. اهـ.